المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم
المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم
- ندوات وورش عمل . -تبادل الوفود والزيارات . - تقديم كافة الأنشطة التي تساعد فى التعرف بالدول الأخرى والتي من شأنها تقوية العلاقات الثقافية والاجتماعية -التنظيم والمشاركة فى المؤتمرات والمعارض المحلية والدولية داخل وخارج جمهورية مصر العربية -تبنى مشروعات جمع وتوثيق ونشر التراث الثقافى. -إنشاء مركز دولى للترجمة ونشاطه هو أنشاء قاعدة بيانات للمترجمين والمراجعين اللغوين والترجمات من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية والعكس . - إدارة وتشغيل المشروعات التعليمية والأكاديمية والفنية من خلال التعاون مع الهيئات والمؤسسات. -تعليم اللغة العربية والروسية وإدارة المشروعات التعليمية بأسعار رمزية بالتعاون مع الهيئات والجامعات والمؤسسات ذات الصلة بالبلدين . -ترجمة ونشر الكتب والمجلات العلمية والثقافية وإصدارها .
المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم

الأخبار

دفاعاً عن الأدب

دفاعاً عن الأدب

كتب: محمد هشام

قرأت مؤخراً المقالة الرائعة والثريّة "لماذا نقرأ الأدب؟" لأديب بيرو العظيم ماريو فارغاس يوسا المولود عام 1936، والذي حصل على نوبل في الأدب عام 2010، وأكاد أُجزِم أنها أهم وأشمل ما قرأت حول هذا المسألة، والتي أُفْرِدَت لها العديد من المؤلفات والدراسات والمقالات والورقات البحثية، والقضية هُنا هي قضية الأدب وموقعها وسط حقول الفكر وميادين العِلم. حيث تتعالى بعض الأصوات دوماً، المُنكِرة لفضائل الأدب، والمُجحِفة لقدره الحقيقي في إنارة العقول وإثارة الأذهان وتشكيل الوعي.

فالأعمال الأدبية قلما ما تحظى بنصيبها من الإنصاف عند مقارنتها بنظيراتها الفِكرية والعلمية، وهذه القضية أهم ما يشغلني؛ فما أكثر النقاشات التي قمت بخوضها؟! وما أكثر ما كتبت حولها بصفةٍ مباشرة كانت أو غير مباشرة من قبيل الواجب –كباحث في الأدب المُقارَن واتجاهات النقد- أو كقارئ ومتذوقٍ للأدب وأعماله القيّمة الرائدة، وهُنالك في مقالة هوسا، رأيته وقد خاض غمار هذه الحرب بأقل التكاليف، وأخذ يفند دفوع مُنكري ومُجحفي قدر الأدب، هؤلاء من يدعون  بين الفينةِ والأخرى أنه محض ترف، مرتئين أن قراؤه مشغولون دوماً بالترهات، ومن نثر وأشعر عقلٌ مُعرِض عن استيعاب حقائق العِلم ونواميس الكون، وليس بجديدٍ على هوسا مثل هذه المواقف المنتصرة للأدب ولأعلامه وأعماله في آن، وهو الرجل الذي انتفض بشدة؛ مهاجماً لجنة "نوبل" عندما منحت جائزتها في حقل الأدب للشاعر والمطرب الأميركي بوب ديلان في 2016.

لا أنسى أول جملة ألقاها على مسامعنا أستاذنا الدكتور محمد عباس –أستاذ الأدب الروسي بكلية الألسُن- حينما قدم سلسة محاضراته في الأدب؛ قائلاً : "الأدب أقصر الطُرًق إلى الحياة"، ولم يكتفّ فقط بتدريس روائع الأدب السوفيتي والروسي، بل قام بمقارنته بنظائره من أداب الانكليز والفرنسيس وكذا بقرائح وخلاصات الأدب العربي، ومن حينها عرفت قيمة الأدب، وانكبت على دراسة أعماله وكذا اتجاهاته وألوانه، وبالطبع قراءة الأدب قد أضافت إليّ أبعاداً أخرى، وألهمتني العديد من الأفكار التي كانت عماداً للعديد من المقالات والدراسات الأدبية والقصص القصيرة، وكان بالنسبةِ لي طريقة أخرى وجديدة لاكتشاف عوالم أخرى بالحياة.

هؤلاء من يقارنون بين العِلم والأدب –وهي مقارنة بالطبع غير متكافئة لعدم توازي كِفتيّها والأهم لعدم موضوعيتها وجدواها؛ ليُرجِجوا كفة الأول على الأخير، لتصل هذي المقارنات في النهاية إلى إنكار دور الأدب وريادته وقيمته بالتوازُن مع علوم الطبيعة والعلوم الإنسانية والاجتماعية؛ مُتناسين أن كان ولازال هو الترجمة الرصينة البليغة لما تجود به كافة الأمم والحضارات في حقول العلم، فلا يمكن لأية حضارة مهما أنجبت من العلماء والمفكرين أن تُورِد تلك الحقائق وكذلك النظريات العلمية والإنتاجات الفكرية إلا في قوالب أدبية رصينة تمتزج بالتجارب الشعورية وكذا بتجارب التخييل الذاتي التي تُضفي عليها قيمةُ فوق ما تملكه.

يذكرني هؤلاء المتربصين بالأدب وصنوفه بعالمين ظهرا أواخر القرن التاسع عشر، وهُما سيزار لو مبروزو (1909:1835) العالم الإيطالي الذي له إسهامات كبيرة في حقل الجريمة وعلم النفس الجنائي، وتلميذه ماكس نوردو (1923:1849) الطبيب والناقد الاجتماعي اليهودي، وكانا يتقولان بجنون الأدباء والفنانين، وكانت العبقرية الفنية والمقدرة الأدبية –في نظرهم- حالات مرضية واضطرابات عقلية يُعانيها هؤلاء الذين يُبدِعون ويُسَطِرون الإنتاجات الأدبية والأعمال الفنية، ورأوا أن المجتمع السوي ليس في حاجة إلى الكُتاب والشُعراء أمثال بودلير وفاليري وإبسن وزولا وفاجنر ونيتشه وإدجار آلان بو؛ إذ إن أعمالهم ما هي مجرد إفرازات شخصية ومرضية بحتة، ولا تنتمي إلا للذين قاموا بتأليفها، وبالتالي غيرهم من الأصحاء والأسوياء –على حد تعبيرهم- ليسوا في حاجة إلى مُطالعتها.

يتناسى هؤلاء أن الأدب في شكله النظريّ –إذا لم وضعنا مضمونه جانباً- يتميز عن العلم بجمعه بين النسيج والتركيب، أو الشكل الفني، حيث أن لغة العلم تقتصر فيها الألفاظ والعبارات على أداء الغرض الذي تضطلع بِه، وهو بالطبع إيصال الحقائق العلمية والنظرية، أما في العمل الأدبي هذا المنطق لا يُجدي شروى نقير؛ لأن الأدب لا يهتم بالمعاني العامة المُجَرَدة فقط، بل قيمته الأساسية تنطوي على قدرته الفاعلة في تجسيد الأفكار وتمثيلها أمام القُراء، وهُنا عظمة الأدب ومناط تميُزه وتفرده في حتمية المزاوجة بين المضمون والشكل، وبالطبع تلك المِزية لا تتوافر بالكتابات والتنظيرات العلمية. ومن هُنا نرى جلياً أن العالِم وظيفته إخبارية تقريرية لما يمتلكه ويكتشفه من الحقائق والنظريات والأنساق الفكرية، أما الأديب وظيفته التجسيد والترميز قبل التصريح والإنباء والتجريد.

وأهم العوامل التي نعمد إليها في الرد دوماً على خصوم الأدب المجحفين حقه وتميزه؛ انتصاراً لفروع العلم ولحقول التجربة والاستقراء، هو أن نُلقّ عليهم هذه الأسئلة: أين تقرؤون تاريخكم الموضوعي الغير مُزيّف والذي يكتب غالبيته مفكرو السُلطة وانتلجنتسيا الحُكام؟! كيف تقفون على أحوال الأمم والمجتمعات وكافة البيئات والأطباع التي كان الكثير منها مادة رئيسية ونواة للعديد من الدراسات المعرفية والسوسيولوجية؟! ألم تُؤرِخ بعض الأعمال الأدبية للكثير من الحقول العلمية ولأفكارها ونظرياتها والتي تتنبأ دوماً وبكل عصر بعالم رائع جديد؟! أيّ كتاباتٍ رمزية قد آلت على نفسها مهام الدفاع عن قضايا الفِكر والمُفكرين والعُلماء المُضحدين للخرافات والمتجاوزين دوماً بأممهم نير الجهل والظلام؟! ألم يكُن الأدب في كثير من الأحيان هو القوة الدافعة للطبيعيين والبيولوجيين بعد أن كشف العديد منهم بإسهاماته الظُلمة الحالكة بالقرون الوسطى التي كانت تقوض دعائم النهضة والتنوير؟!

 

اضف تعليق